top of page

بفضل العمى | عميت مئير



اعذروني لأني لا أريد أن أتكلم عن الأحتلال، أنا أريد أن أتكلم عن جدتي.


جدتي لاجئة. إذا كنت تقرأين هذا النص باللغة العبرية أو العربيّة، على ما يبدو جدتك أيضًا. إذا كنت تقرأ\ين هذا النص في اللغة العبريّة، ربما يعتريك شعور غريب، أو غير مألوف، أن تلقت جدتك ب"لاجئة". بالكاد تبلغ الخامسة عشر من عمرها، بعد سنين بين القطارات والمخابئ التي سلبوا منها طفولتها وعائلتها القريبة، لقد صعدت لوحدها على سفينة نحو شاطئ الأمان الوحيد الذي يمكن أن تفكر فيه. يتيمة، بلا شيء وبلا مأوى، ومع كل هذا، على مر السنين ، وجدنا صعوبة في تسميتها "لاجئة". لماذا؟


***


قبل أكثر من عقد، محاط في أعلام إسرائيل على قطعة من العشب في حديقة اليركون، هناك شيء لو يركب على عقلي.


كنت وقتها خضاريّ صغير ومتحمس وشاركت في مبادرة احتفالية لرفع الوعي، الشواء في يوم الاستقلال. ستمر بعض السنين حتى تصبح كل تل أبيب خضاريّة، ووقتها لم نعرف عن "بيوند" أو أن التوفو يمكن أن يكون لذيذًا ايضًا، ومع ذلك كان ناجح ولطيف وحتى أنه كان ثوريّ بعض الشيء: نحن نحضر الأخبار الجيدة. وإذ بالاحتلال يأتي.

أي يوم الاستقلال وكل الحمل الذي يأتي معه دخلنا إلى نقاش، ووجدت صعوبة في فصل الدائرة المثالية. حاولت أن أفهم كيف أن الناشطين\ات معي، حسب فهمي ، فقد جسّدوا في خياراتهم الأساسية التزامًا واضحًا بعمل الأمر الجيّد. الامتناع عن إيذاء المخلوقات الحيّة، قادرين\ات على تبرير إيذاء - "العرب".



تصوي: هانس فين, ١٩٣٩\ ٢\١ | مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي


من داخل نفس البلبلة الأولى، البريئة تقريبًا، لكل من يحاول أن يبني هويّة سياسيّة مستقلّة، خرجت لرحلتين متوازيتان. الأولى، من داخل الانجذاب نحو مساحات جاهزة لمواجهة تحديات ترجمة القيم العالمية إلى أرض الواقع. إذا أدركت أني لا أريد أن أشارك بالعنف الممنهج واتخاذ القرار بأن أصبح خضاري، كيف هذا المفهوم تترجم إلى أجزاء أخرى في حياتي؟ سعت الرحلة الثانية إلى فهم نفس الحاجة إلى التبرير: من أن يأتي الخيار بالعمى، الافتراض بأن العنف ضدّنا (من نعني ب "نحن"؟) هو فريد، من دون أي سياق، وكل ما صنع من أجل الدفاع عن النفس هو صحيح ومبرر. خط واحد، مستقيم وبسيط -بسيط جدًّا- يوصل بين اولائك الذين قتلوا عائلة جدتي وبين اولائك الذين اقمنا دولة لليهود على أرضهن\م.


**


ما يقارب الأربعة عقود بعد قيام دولة اسرائيل تحت سحابة قاتمة لحرب أودت بحياة الآلاف وحوّلت مئات آلاف الفلسطينيين\ات إلى لاجئين\ات في بلادهم وخارجها، طلب أحد الناجين من الهولوكوست أن يعلّم بالتحديد عن نسيان تلك الحرب، التي أودت بحياة ملايين الأشخاص وحوّلت العديد إلى لاجئين\ات - مثل جدتي.


"في الآونة الأخيرة بدأت أقتنع، أن هذا ليس إحباط شخصيّ، كعامل سياسيّ-إجتماعيّ، ما يحرّك المجتمع الإسرائيليّ في علاقته مع الفلسطينيّة [هكذا ذكر في المصدر]، القلق الوجودي العميق، التي يغذيها تفسير معين لدروس الهولوكوست، والاستعداد للاعتقاد بأن العالم كله ضدنا ونحن الضحية الأبدية"

هكذا كتب يهودا ألكنا في "هآرتس"، وحث قراء الصحيفة على "نسيان [...] وعدم الانشغال، في المساء، في رموز، في طقوس والدروس المتعلمة من الهولوكوست". في نفس المقال، "بفضل النسيان"، ٢١ عام بعد الأحتلال بسنة ١٩٦٧، لم يطلب نسيان التاريخ، بل أدعى أن أسرائيل اسطورة للتمجيد. طلبتُ أن أعود إليه الآن، عندما يتبين أن الديمقراطية أمر جدًّا طبيعي بالنسبة لها، وبذلك، أن تكون ديمقراطية فقط لجزء مختار من رعاياها، بإمكانها بسهولة أن تتوقف عن كونها ديموقراطيّة بالكامل.



"لا يجب، بل ممنوع، أن نسمح لإعطاء الماضي السيطرة في تحديد مستقبل المجتمع ومصير الشعب. إن وجود الديمقراطية ذاته في خطر عندما تشارك ذكرى الضحايا السابقين كعامل نشط في العملية الديمقراطية"

(الجواب الذي يقترحه، في بساطة، هو التثقيف السياسيّ، لكن – ) كيف يمكن أن ننسى؟ أن نشفى؟ الهولوكوست هي أكبر المبررات لوجودنا هنا، التتويج المأساوي والمؤلم لملاحقة اليهود. هل بالفعل من الممكن أن نتركها، أن نشفى منها وأن نعرف أنها من ورائنا؟ من أجل ما ولماذا "ممنوع أن نقارن"؟ هل جدتي هي لاجئة، ما هذا يقول عن مسؤوليتنا تجاه اللاجئين الآخرين؟


**


هناك أمر جيد في العمى. مثلما اقترح الكنا أن النسيان هو فرصة للشفاء، وكذلك العمى، يحوي مركب مهم للغاية للدفاع عن النفس. هو يحمي من أمور معيّنة، على الأقل ، القلق الوجودي ويضمن بعض القرب من التيار السائد.



تصوي: ميخال شومير, ٢٠٢٣


لكن بينما "نسيان" إلكانا للهولوكوست لا يعني نسيان التاريخ، بل أن نعطيها سياق الذي بنظره أكثر مناسب لمستقبلنا، نحن في زمن نطلب فيه من الشعب الفلسطيني أن ينسى ألمه التاريخيّ – أو على أقل أن يتوقف عن تذكيرنا فيه، جزء مننا هنا، وبالتأكيد ليس حقيقة أنه يواصل تحصيل الضحايا حتى الآن.


سمعنا كلنا عن الأحتلال". نحن نعرف أنه موجود. ومع ذلك، عن قصد – أو بالأساس – عندما يحتاج إلى صوت واضح ضد الظلم الذي يجلبه معه، إنه يأتي كالصمت في أحسن الأحوال، أو التبرير في أسوأ الأحوال.

التاريخ، الشخصيّ والجماعيّ، هي أداة في خدمة الحاضر والمستقبل، في حين أن العمى يعكس انكسار الأمل الذي ورثته من جدتي – شاطئ الآمان الذي كان ما تملك، والقوة المفسدة التي تحوّل إليها. الحاضر محبط، المستقبل غير واضح. إلى أين نكمل من هنا؟ لا أحد يفهم، ربما أفضل شيء أن نذهب على ما يشعرنا بالأمان.


أن فتح الجروح (أو العيون) سيكون مؤلم، بالتأكيد. من أجل ما نحاول، حيث يبدو أن مع مرور الوقت، الوعد بمستقبل أكثر صحيّ، وأفضل على هذه الأرض أخذ بالتضاؤل فقط؟ لذلك نحن "ضدّ الاحتلال" وتلك نهاية الأمر تقريبًا. نختار بأن لا ننظر، أن لا نهتم كثيرًا. سيؤلمنا إذا واجهنا أنفسنا، واجهنا مجتمعنا، بأننا من الممكن أن نكون شركاء لهذا الأمر المريع. جدتي هربت من أهوال ربما لن أتمكن من وصفها وبنت لنفسها حياة رائعة –هل باستطاعتي أن أقدّر ذلك أن أتساءل (وبعدها، أن أجاوب) ماذا يختبئ في بقايا هدم المسجد في الكيبوتس التي ساعدت على إقامته؟ وماذا سأفعل بالإجابة؟



**


الجهل نعمة، هكذا يقال. نحن نعيش في حيّز الذي يتطلب المزيد والمزيد من الطاعة، ويستفرغ بشراهيّة كل من يتساءل (أو يقوم بإدلاء التصريحات) حول الأحتلال. لا أحد يتحدى الوضع الراهن بدافع الرغبة. لقد تعلّمت أن لا أتوقع الكثير من المغاييرن جنسيًّا، لكن الوجود الكويري، لا يوجد لديه أي خيار سوى أن يتخيّل واقع جديد. بالحقيقة، نفس إعادة التخيل التي بإمكانها أن تخلق عالمًا آخر، عادات اخرى، يشمل مفاوضات مع العادات الموجودة.إلى أي حدّ من الممكن أو آمن أن نتمدد، وأين – من دون خيار أو ممكن من داخل خيار – من الأفضل الاستسلام، أو أن تحافظ على "آخر" آخر لامتصاص النار التي لولاه كانت ستوجه إلينا بالتأكيد؟


تصوي: فاينا فيجين, ٢٠٢٣


اختيار العمى هو الإختيار الحتميّ تقريبًا في مثل هذا الواقع الصعب. الخيار بمقاومة العمى، في العدالة التاريخيّة – بقدر ما قد يكون متطلبًا - فإنه يتطلب على الأقل بصيص أمل لحاضر مختلف، لمستقبل آخر. وألا فأن الثمن لا يستحق كل هذا العناء. العمى يحرر، والحمل ثقيل، وماذا لنا ولذلك، من الممكن أن يكون القطار قد فارق المحطّة.


لكن الكويريّة تقترح – بل تطلب – أن ننظر. تجاه وجودنا الحرّ، ككويريين في المجتمع اليهودي والفلسطينيّ، مثل وجود حر لكل مجموعة آخرى، مطلوب تخيل شيء مختلف تمامًا، واحد هو ملك لأولئك الذين أجبروا على خلق مثل هذا الخيال بعد طردهم خارج حدود التيار الرئيسي. الكويريّة، في جوهرها، هي فرصة لإعادة السؤال عن كل شيء. هل يوجد لديها حدود؟ هل باستطاعتنا أن نتطلع إلى مدى مختلف كليًّا؟

أن نخرج – أو أن نقود – إلى مستقبل مختلف؟ ربما هذا أمر مبالغ فيه، وكان لدينا ولا يزال لدينا الكثير للقتال من أجل أنفسنا. لكن لماذا أصبحتُ كوير؟









عميت مئير

صحافي بالأساس، يسكن ويعمل في نيكوسيا وفي السابق كان ناشطًا في منظمة "صداقة-ريعوت" للتعليم ثنائي القوميّة لنشاطات ومبادرات اضافيّة. يحب أن يطعم أشخاص لطيفة أن يرقص وقت الحاجة.


Comments


bottom of page